تخطى إلى المحتوى

بلدة الوجه القديمة: متحف حيّ لفنون العمارة على ساحل البحر الأحمر

4 دقيقة قراءة

8 أغسطس 2024

نأخذكم في جولة عبر شوارع البلدة القديمة، حيث تروي المباني قصصاً عن الثقافة، والتجارة، والمجتمع، والتراث.

تقف مدينة الوجه القديمة، تلك الجوهرة على ساحل البحر الأحمر، كشاهد حي على حقبة زمنية ماضية، بجمالها المتأصل في الأنماط المعمارية الفريدة التي استمرت لقرون. عند التجول في شوارعها الضيقة، تشعر وكأنك في رحلة عبر الزمن، حيث تروي المباني قصص التبادل الثقافي والحرفية والتكيف مع البيئة.

المرجان والخشب: جوهر عمارة الوجه

تُعَد المنازل التقليدية في الوجه، والتي بُنيت في أوائل القرن التاسع عشر، نموذجاً بارزاً لاستخدام المواد المحلية بفعالية وإبداع؛ حيث تتميز بمزيج رائع من الحجر المرجاني والخشب. يشكل المرجان، المستخرج من البحر القريب، الجدران المتينة للمنازل، بينما تعزز العوارض الخشبية المستوردة من أماكن بعيدة مثل الهند وشرق إفريقيا هذه الكتل المرجانية. هذا المزج بين المواد يخلق مباني تتّسم بالمتانة وتتناسق مع محيطها الطبيعي.

استخدام حجر المرجان مثير للإعجاب بشكل خاص. يتم قطع كل كتلة بدقة ووضعها بطريقة تُظهر مظهرًا طبيعيًا متماسكًا مع البيئة الساحلية. تعكس هذه المنازل، التي تتكون عادة من طابقين أو ثلاثة طوابق، براعة البُناة الذين استخدموا ما هو متاح لابتكار شيء جميل ومستدام. تضيف العوارض الخشبية دعماً هيكليًا ولمسة من الدفء والأناقة للجدران المرجانية.

الرواشن: نافذة على الماضي

أثناء تجولك في بلدة الوجه القديمة، ستجذبك الرواشن الخشبية المنحوتة، التي تبرز من واجهات المنازل. هذه النوافذ الكبيرة المزخرفة أكثر من مجرد عناصر معمارية؛ بل هي رموز لفترة كانت فيها البلدة مركزًا مزدحمًا بالتجارة والتبادل الثقافي. الرواشن، المصنوعة غالبًا من خشب الساج أو الماهوجني، تسمح للضوء والهواء بالدخول إلى المنازل مع الحفاظ على خصوصية السكان.

يجمع تصميم الرواشن بين العملية والجماليات. يسمح الخشب المشبك بنسيم البحر بالدخول، مما يبرد الداخل في المناخ الحار. في الوقت نفسه، تضيف الزخارف المنحوتة بدقة عنصرًا من الجمال والأناقة إلى المباني البسيطة. هذا المزيج من الوظيفة والجمال هو علامة مميزة للتراث المعماري في الوجه، مما يعكس ارتباط البلدة بالتقاليد المعمارية الإسلامية الأوسع، مثل المشربيات الموجودة في القاهرة.

تصميم المنازل: تكيّف مع البيئة والثقافة

تصميم المنازل في بلدة الوجه القديمة هو درس في كيفية تكيّف العمارة مع الثقافة المحلية والمناخ. تُبنى معظم المنازل حول فناء مركزي، وهو تصميم يخدم أغراضًا متعددة. يعمل الفناء كمكان لتبريد الهواء، مما يتيح دورانه ويحافظ على راحة الداخل. كما يُستخدم كمكان خاص للتجمعات العائلية بعيدًا عن أعين الجمهور، مما يعزز روح المجتمع والترابط.

تُبنى هذه المنازل، التي تتكون عادة من طابقين أو ثلاثة طوابق، لاستيعاب العائلات الكبيرة، مع ترتيب الغرف حول الفناء. يحتوي الطابق الأرضي عادةً على مناطق التخزين وأحيانًا محلات صغيرة، بينما تحتوي الطوابق العليا على مساحات المعيشة. توفر الشرفات الخشبية والرواشن في الطوابق العليا الظل وتسمح بالتفاعلات الاجتماعية، مما يجعل المنازل عملية ومريحة لساكنيها.

الجص الجيري والزخارف: الجمال والحماية

تُغلف الواجهات الخارجية لمباني الوجه غالبًا بالجص الجيري، الذي يحمي الجدران المرجانية من الأملاح والرطوبة البحرية القاسية، مما يضمن بقاء المباني لفترات طويلة. لكن بعيدًا عن دوره الوقائي، يوفر أيضًا مساحة للزخارف التقليدية. حيث توفر الجدران البيضاء الناعمة تباينًا مذهلاً مع زرقة البحر والسماء، بينما تضيف الزخارف الدقيقة لمسة من التعبير الفني. تُزين المداخل والنوافذ غالبًا بالأقواس البارزة، وهي عنصر شائع في العمارة الإسلامية، تضيف رونقًا وجمالًا للمداخل والنوافذ.

أبواب الدخول المصنوعة من التركيبات الخشبية الدقيقة، تتميز بزخارف إسلامية وأنماط هندسية تشير إلى ثراء وسمعة الأسرة، بينما تظهر المباني الرسمية مزيدًا من الرقي. تصميم هذه الأبواب وصناعتها وصيانتها يعزز ليس فقط الجاذبية الجمالية للمباني بل أيضًا الأدوار الوظيفية في تعزيز دوران الهواء والضوء.

مدينة الوجه القديمة هي شاهد حي على التراث المعماري الغني لمنطقة البحر الأحمر. باستخدام الحجر المرجاني والخشب، والرواشن المميزة، والتصميم المدروس، والزخارف الجميلة، تجسد المدينة أصالة وفخر التراث الثقافي السعودي. من خلال الحفاظ على هذا التراث الفريد، نضمن أن يستمر صداه في الحاضر، مقدّماً لمحة عن زمن كانت فيه العمارة ليست مجرد بناء هياكل، بل كانت تدور حول خلق منازل -ومجتمعات- تتناغم مع بيئتها وثقافتها.